"الإسلوب هو الرجل" ... بين العقاد و الحكيم و طه حسين . يمكن تغيير العنوان

"الاسلوب هو الرجل "...
هذه العبارة الذائعة الصيت وردت أول ما وردت على لسان الكاتب و الناقد الفرنسى " سانت دينيف" و هى على صغرها تعد الوصف الأصدق و الأدق لذلك الذى نسمية " الإسلوب الفنى " فقد إستطاعت أن تختصر فى إسمان و ضمير صفحات طويلة كانت من الممكن ان تكتب لنفهم بدقة ما هو الإسلوب ؟
و الإسلوب كما يرى " سانت دينيف " و كما أرى أنا معه هو الكاتب نفسه , هو شخصيتة الحقيقية إلى أبعد ما تكون , عمقه الإنسانى و الوجدانى يخرج إلى الورق معلنا عن نفسة مبديا تفرده من دون قصد الكاتب بل و قد ينساب من قلمه الإسلوب دون أن يشغل بالا لطبيعة الفكرة التى يتناولها .
و إذا كان الموروث الثقافى و مجموعة القيم التى يعتنقها الكاتب هى ما يشكله فكريا وعاطفيا و ما يؤثر تأثيرا مباشرا على محتوى الأفكار التى يتناولها فإن هذا الآثر يمتد إلى الكتابة نفسها , و يلعب دوره الأكبر فى حدود" الإلفاظ "للتى يستخدمها الكاتب للتعبير عن مضمون فكرته و ليس على مستوى "التركيب" أى الطريقة التى تتألف بها الألفاظ جنبا إلى جنب و التى تشكل فى الأساس ما يعرف بالإسلوب .. و فى هذه الطريقة للتركيب " الإسلوب " تكمن الموهبة التى تميز الكاتب الجيد من غيره فليس كل من قرأ كثيرا و كون لنفسه حصيلة لغوية كبيرة بمقدوره أن يكتب مقالا أدبى أو ينظم شعرا لأن هذه الحصيلة لا تعنى بالضرورة القدرة على تنظيمها و" تركيبها" بالشكل الملائم . إلا أن ذلك لا ينفى أن " الاسلوب " لا يولد جميلا و لكنه فى حاجة إلى القراءة المستمرة كي ينمو و يتماسك .
واسلوب و فى اعتقادى ان الكاتب الموهوب هو الكاتب الذى يملك الإسلوب المختلف .. هو الذى يمكنك أن تتعرف على مقالته أو قصته من بين مئات القصص و المقالات , هو الذى يشعرك كلما قرأت له أن هناك كيان مستقل يحاورك , له صوته الخاص و نبرته المتميزة .. و ليس الكاتب الموهوب هو من تفقده بين ما يكتبه , و من لا تستطيع الوصول إليه أو التعرف عليه مهما قرأت له فاسلوبه فارغ لا شكل له و لا معلم , تصنعه الفكرة كيفما كانت و متى كانت فلا تميز و لا موهبة و لا إبداع و لا ابتكار... بينما الاسلوب الجيد هو الذى تتلبس به روح الكاتب و يفيض شعوره و تتجلى عاطفته و على ضوئه يمكن له أن يقترب من فكرتة أكثر و نقترب نحن منه أكثر .
*****

و من أقوى الأساليب و أكثرها تميز أسلوب الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد (1889-1964) فبمقدورك أن تتعرف عليه من أول فقرة فى مقاله .. اسلوبه بناء هندسى فخم , ضخم , ملىء بالدهاليز و الأغوار , تراه فيبهرك وتدخل إليه فتشقى و تتعب , تتوه فى ممراتة الطويلة , تتخبط فى وعورة ألفاظة و حدة تراكيبة و تشب فوق أصابعك كى تبلغ مقاصدة البعيدة و قد يبلغ بك التعب مبلغة و تقرر العودة من حيث أتيت و تغلق الكتاب بعد فصله الأول .. و قد تكون من هواة المغامرة و الغوص فى أعماق المعانى و ما وراء الأفكار فتكمل مهما تكلفت من عناء و مهما تعسرت بك الخطى .. فالرحلة مع العقاد تستحق ما هو أكثر و لابد أن تكون كذلك كل الرحلات للنجوم .. شاقة و طويلة أيضا و لا يهم , انها النجوم .. أنه العقاد !!
و يمكننا أن نجد عذرا للعقاد فى أسلوبة الصعب هذا , فهو مفكر عميق بل شديد العمق يميل إلى التحليل و التقسيم و البحث فى أدق التفاصيل و ضرورى جدا أن يستعين بأدوات خاصة من الألفاظ حتى يبلغ هذه الاعماق و يصل إلى هذه التفاصيل تماما كما يستعين الباحث " بالميكرسكوب " ليرى بوضوح الكائنات الدقيقة .
و هناك خطأ شائع لا أعرف ما مصدره .. و هو أنك إذا اردت ان تقرأ شيئا عن الصحابة رضوان الله عليهم عمر و أبوبكر و عثمان و خالد نصحوك فقالوا: -
إقرا العبقريات للأستاذ العقاد !
و هى نصيحة فى غير محلها أبدا , فالعقاد فى هذه العبقريات لا يروى تاريخا و لا يحكى أحداثا إنما هو يبدأ من حيث انتهى التاريخ و توقفت الأحداث يفكر و يحلل ثم يقول , من هذه المنطقة التى يتركك عندها المؤرخون و الرواة يأخذك العقاد إلى مناطق أخرى يحلق بك فوقها بمنطقه القوى و أراءه السديدة التى تقف فوق قاعدة عظيمة من غزارة المعرفة ووفرة الإطلاع و تدب لها جذورا عميقة تنفذ إلى مخابئ الامور و خفايا النفوس .. فهو فى عبقرياته أشبه بمحلل نفسانى للعظمة الإنسانية فى اكثر صورها إشراقا يبحث عن دواعى عظمتها و مفاتيح بطولتها و لا يمكن لأحد لا يعرف غير القليل عن شخصية الصحابى و الحوادث التى أحاطت بها أن يفهم كلام العقاد فهما كاملا .. و لا يغنية هذا الكلام أبدا عن الرجوع لكتب السير و التراجم قبل الشروع فى قرأه العقاد أو على الأقل الإلمام بالمعلومات الأساسية فيها.. فمن خلال هذه المرويات نعرف التاريخ و بالعبقريات ننفذ إلى ما وراءه .
أما طه حسين " 1889-1973 " فهو أول من حرر اللغة من قيود الصنعة و المحسنات من سجع و جناس و غيرها و من الطابع الذى كان يغلب الشكل على المضمون و الصورة على المعنى و الموسيقى على التسلسل , مع أن أسلوب طه حسين نفسه لا يخلو من الجرس الموزون و الموسيقى الخفية وتشعر حين تقرأ له بمدى حرصه على الشكل المنمق و التعبير " الشيك " و لكنه و قبل ذلك حريص على الفكرة و على ألا يضيع منه المعنى و المغزى فى رحاب الصور الملونة التى يملئ بها كتبه لذلك فهو لا يكثر من الألفاظ الصعبة بل يختار الجذاب و الرقيق و يهمه أولا أن يكون اللفظ دقيقا فى التعبير عن مقصده . و نستطيع القول أن طه حسين جمع كل ما فى الثقافة الفرنسية من رقة و عقلانية و أناقة بينما جمع العقاد ما فى الثقافة الإنجليزية من دقة و عمق و صرامة .. و كان للأستاذ أنيس منصور تعبيرا جميلا يقارن فيه بين العقاد و طه حسين و يقول : أنه إذا كان العقاد يبنى بيوته من الأسمنت المسلح فى وضح النهار فإن طه حسين يبنى بيوته من غصون الأشجار فى ضوء القمر .. إذا كان العقاد هو المهندس .. فطه حسين هو الجناينى !!
أما توفيق الحكيم ( 1898-1987 ) .. فالحديث عن اسلوبه و ما فيه من سحر و نعومة و رقة و بساطة يطول و يطول .. فلم تعرف العربية فى عصرها الحديث مقالا فى روعة مقال " توفيق الحكيم " و لا أبالغ .. فالرجل أوتى روح الفنان الحالم كما يجب أن تكون و لم تغب تلك الروح عن كتابته المسرحية أو الروائية و ما ينتجه من فكر حر طوال سنوات عمره .. وقد كان مسرحه أرقى ما قدمه مسرحنا المصرى و العربى حتى هذه اللحظة و رغم أنه كان مسرحا عقليا فلسفيا إلا أن خفة الظل و الشاعرية النابضة بالحياة كانت الطابع المميز لأغلب المسرحيات .. و لتوفيق الحكيم قصتة الخاصة مع الإسلوب فقد عاش سنوات طويلة من عمره يبحث عن الصيغة المناسبة التى يرتاح لها فى كتاباته و طوال فترة تواجده الدراسية فى باريس ترك الدراسة و انكب على القراءة المتواصلة المتأنية لكل ابداعات الاداب الاوروبية و كان يخصص ما يتعدى الست ساعات من يومه يزور فيها أجنحة متحف اللوفر فى باريس و يسهر مع الموسيقى الكلاسيكية لأكابر الملحنين الغربيين و لم يكن هدفه من كل ذلك المتعة الفنية وحدها و لكن كان يعنيه أولا البحث عن ما سماه فى سيرتة الذاتية " البناء الفنى "و الذى على شاكلتة يقوم أى فنان فى مضماره بصياغة فنة كى يخرج من كل هذا بعد ذلك ببناء فنى خاص به يتحرك على أساسة و قد كان له ما سعى و صار- بجانب نجيب محفوظ -أكثر كاتب عربى تترجم له أعمال أدبية باللغات الغربية و الأسيوية !! – رحمة الله عليه كان معجزة يعز علينا ألا تتكرر ..
و هناك رأى للأستاذ احمد آمين يقارن فيه بين أساليب العقاد و توفيق الحكيم و طه حسين , فالثلاثة كتبوا فى سيرة الرسول عليه الصلاة و السلام و كانت لكل منهم طريقته فقال عنهم :
العقاد يمشى أمام النصوص التاريخية يضع لها الخطة و برنامجها للسير نحو الهدف الذى يريده .
و طه حسين يمشى إلى جوار النصوص التاريخية ينقل منها و يحلل دون أن يعرض عليها شيئا
و الحكيم يمشى وراء الاحداث التاريخية , يرى و يكتب , يسمع و يحاور و قد يسبقة النص و لكن الحكيم لا يحاول اللحاق به لأنه ينشغل بالحديث عنه ...
رحم الله ثلاثتهم ...

شكرا ليك