الفردوس المفقود / إدريس الجائي

ولد إدريس الجائي سنة:1923 و توفي سنة :1977 ميلادي

له ديوان:السوانح

الفردوس المفقود
إدريس الجائي


نعيمُكِ، لو تعلمين، امّحى
كما يمَّحي الطللُ الدارسُ
سفتْه الرياحُ لدى عصْفِها
وداس معالـمَهُ الدائس
أطوف بأرجاء هذا الخرابِ
أُقبّل أنقاضَه الخالدهْ
وأسجد فوق مهيل الترابِ
لأندبَ جنّتيَ البائده

****
ترسّمتُ أمسِ بقايا خطاكِ
على ضفّة النهر، هل تذكرينْ؟
هناك التقينا وكان الربيعُ
وكنتِ كأزهاره تبسمين
هناك رأيتكِ عاريةً
وقد غار من طُهركِ الياسمين
فمّجدتُ في عريكِ العبقريْ
يِ جمالَ السماء، جمالَ الفنون
هناك عرفتُكِ حالمةً
ويا لَجمالكِ إذ تحلمين
تذوب السماواتُ في مقلتيْـ
ـكِ سنىً غافياً بين ظلِّ الجفون
وتعشى الفراشاتُ حول البهاءِ
يرفّ على طهر ذاك الجبين
هناك رأيتُكِ راقصةً
ويا روعةَ الفنّ إذ ترقصين
تميس الغصونُ ويمشي الحَمامُ
يُقلّد خطوَكِ إذ تخطرين
يُجَنُّ جنونُ طيورِ المروجِ
فتعزف نشوى بديعَ اللحون

****
ترسّمتُ أمسِ بقايا خطاكِ
ولكنْ عفتْ تحت خطوِ السنين
وفتّشتُ عن حالمات الضفافِ
رواها من النهر ماءٌ مَعين
فماذا رأيتُ؟ بقايا هشيمٍ
بقايا جذوعٍ، وصلصالَ طين
وماذا سمعتُ؟ صفيرَ الريا
حِ، تعوي وراءَ الرُّبا والحُزون
فلا النهرُ ينساب حلماً وديعاً
ويحكي فتونَكِ إذ تنظرين
يُقبِّلُ في خلسةٍ قدميكِ
وفتنةَ عُريكِ إذ تسبحين
ولا العشبُ أخضرُ يكسو الضفافَ
ولا الظلُّ ينشره الزيزفون
ولا النورُ يرقص فوق اللُّجينِ
لُـجينِ الحياض لُجينِ العيون

****
وناديتُ باسمكِ ذاتَ الشِّمالِ
وناديتُ باسمكِ ذاتَ اليمينْ
فرجّع صوتيَ هذا العراءُ
وعاد إليَّ صداه الحزين
قأيقنتُ أنكِ لا تسمعينَ
وأيقنتُ أنك لا تذكرين
وأيقنتُ أنكِ يا جنّتي
مضيتِ إلى حيث لا ترجعين
فأغمضتُ عينيَّ في غفوةٍ
كما كنتِ حالمةً تفعلين
فأبصرتُ طيفَكِ في عالَمٍ
بعيدٍ، بعيدٍ، تحدّى الظنون
وراءَ الشعور، وراء الخيالِ
وراء الحياةِ وراء المنون
وساءلتُهُ عنكِ هل تذكرينَ
ربيعَ السعادةِ جمَّ الفتون
إذِ الخلدُ قيثارةٌ في يديكِ
وأنتِ بأوتارها تلعبين
إذِ الكونُ مملكةٌ للجمالِ
وأنتِ على عرشها تحكمين
وعرسُ الطبيعةِ ما ينقضي
وعيدُ الوجودِ إلى غير حين

****
ولكنّ طيفَكِ في صمتهِ
تلاشى وطار إلى عِلّيّين
فأيقنتُ أنكِ لا تسمعينَ
وأيقنتُ أنكِ لا تذكرين
فأجهشتُ مختنقاً بالنحيبِ
وبالصمت من بعد طولِ الأنين

****
نعيمُكِ، لو تعلمين، امّحى
كما يمّحي الطلل الدارسُ
سفتْه الرياحُ لدى عصْفِها
وداس معالـمَه الدائس
أطوفُ بأرجاء هذا الخرابِ
أُقبّل أنقاضَه الخالدهْ
وأسجدُ فوق مَهيلِ الترابِ
لأندبَ جنّتيَ البائده

****
هناك في الغاب في مَسْـ
ـرَحِ الهوى والتصابي
هناك حيث قضينا
معاً ربيعَ الشبابِ
وقفتُ حيرانَ أشكو
إلى الجنادل ما بي
سألتُ عنكِ صخورَ الْـ
ـوادي وشُمَّ الهضاب
سألتُ عنكِ بقايا الْـ
ـجذوعِ والأعشاب
فكان عصفُ الرياح الْـ
ـهَوجاءِ كلَّ جوابي
عفتْ رسومُ هوانا
والذكرياتُ العذاب
لم يبقَ من كوثر الحُبْ
ـبِ غيرُ لمع السراب
لم يبقَ من سامق الدَّوْ
حِ غيرُ قفرٍ يباب
لم يبقَ من وارف الظِلْ
ـلِ غيرُ ظلِّ السحاب
لم يبقَ من باغم الطَّيْـ
ـرِ غيرُ طيرِ الخراب
وقفتُ حيرانَ أشكو
إلى الجنادل ما بي
وقلتُ يا نفسُ شتّا
نَ بين غابٍ وغاب

****
ترسّمتُ أمسِ بقايا خطاكِ
إلى الغاب مسرحِ حلمي الجميلْ
هناك التقينا، ألا تذكرينَ؟
وكان الربيعُ وكان الأصيل
وكنّا وحيدَيْن بين الظلالِ
نميل مع الحبّ حيث يميل
طليقَيْنِ لولا وثاقُ الهوى
وسدُّ العفافِ تحدّى السيول
هناك على المرج بين الزَّنَا
بِقِ، تحت الخمائلِ، خلف الحقول
غَفَوْنا على نغمات الهَزا
رِ، وهبَّ النسيمُ النسيمُ العليل
وساد الظلام وساد الهدوءُ
ولفّكِ جنحُ الدجى والذهول
فقبّلتُ في لهفة شفتَيْـ
ـكِ، لأرشفَ ترياقكِ السلسبيل
فما أطفأتْ شفتاكِ الغليلَ
بلِ اشتدَّ من شفتيكِ الغليل
وهأنذا أتقفّى خطاكِ
ولكنْ أَضِلُّ سواءَ السبيل

****
ترسّمتُ أمسِ بقايا خُطاكِ
إلى الغاب مسرحِ حبّي العجيبْ
هناك التقينا، ألا تذكرينَ؟
وكان الربيعُ وكان المغيب
وكنا وحيدين بين الظلالِ
وقد نام في وكره العندليب

****

شكرا ليك